النهي عن الفرقة بين المسلمين
لقد كان هذا الأمر مما عني به القرآن الكريم أيما عناية وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اهتدى بهديه من أصحابه البررة والتابعين لهم بإحسان.
أولاً:
الأدلة من القرآن الكريم:
ومما جاء في القرآن الكريم، وهي آيات كثيرة نثبت منها قوله تعالى:
1-(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السُّبُلَ فتفرق بكم عن سبيله) .
2-( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) .
3--إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) .
والآيات واضحة في معناها ودلالتها ولا تحتاج إلا إلى التطبيق بجد وإخلاص، فهي تحذر من التفرق وتدعو إلى الوحدة وجمع كلمة المسلمين، والسير في طريق واحد. فإذا تفرق المسلمون بعد ذلك فهم خارجون عن السير فيه، وحينما تفرق المسلمون أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، زعمت كل فرقة أنها هي الناجية، وما عداها هالك، حتى التبس الأمر على كثير من المسلمين فلم يهتد إلى الفرقة الناجية بسبب تلك المزاعم، ولا ينبغي أن نأبه لتلك المزاعم، بل نعرض كل ما نسمع على كتاب الله وسنة نبيه، فما وافقهما فهو الحق، وما خالفهما عرفنا أنه باطل وهذا هو الميزان الذي ينبغي أن نزن به كل قول ومعتقد مهما كان مصدره كما هو حال أهل السنة في عرضهم للأقوال والمعتقدات على كتاب الله وسنة رسوله، وهو توفيق من الله لهم، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحق إلى أن تقوم القيامة.
ثانياً:
الأدلة من السنة النبوية:
ومن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى اجتماع كلمة المسلمين وتحذيرهم عن التفرق أحاديث كثيرة منها على سبيل المثال:
1- ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال: ((هذه سبيل الله)) ثم خط خطوطاً عن يمينه، وخطوطاً عن يساره ثم قال: (( هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه)) ثم قرأ هذه الآية: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السُّبُل فتفرق بكم عن سبيله)).
2- وفي حديث العرباض بن سارية قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).
3- وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة عند ظهور الخلاف والتفرق في الدين بقوله: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) قال حذيفة: قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)).
4-وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة...وهي الجماعة)).
وفي رواية عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)).
ولا بد لنا من وقفة عند هذا الحديث الذي أضاف إلى التحذير من الافتراق الإخبار بهلاك تلك الفرق الضالة إلا واحدة منها، ثم حصر الفرق في العدد المذكور، ورغم كثرة الروايات المختلفة لحديث المذكور إلا أنه لم يخل عن الاختلاف في صحته، وسنقف هنا عند دراسته على الأمور التالية:
سند الحديث:
رُوي هذا الحديث بعدة أسانيد، إلا أن العلماء وقفوا بالنسبة لقبوله المواقف التالية:
1- منهم من لم يصححه، ولم يجوز الاستدلال به. وهم بعض العلماء كابن حزم وغيره.
2-ومنهم من اكتفى بتعدد طرقه. وتعدد الصحابة الذين رووا هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3-- ومنهم من أخذ به وحاول أن يحصر الفرق في العدد المذكور كالبغدادي رحمه الله وغيره .
وحينما تعرض شيخ الإسلام –رحمه الله- للكلام عن الفرق، قال عن الحديث: ((مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين، وقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره أو صححه كما صححه الحاكم وغيره، وقد رواه أهل السنن وروي من طرق)) . وفي مجموع الفتاوى ورد قوله: ((الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند، كسنن أبي داود والترمذي والنسائي)) .
* * *
حصر الفرق في العدد المذكور في حديث الافتراق
الواقع أن حصر الفرق في العدد المذكور تفصيلاً ليشمل كل فرقة –فيه إشكال، وذلك أن أصول الفرق لا تصل إلى هذا العدد، وفروعها تختلف وجهات نظر العلماء في عدّها أصلية أو فرعية، ثم إن فروع الفرق تصل إلى أكثر من هذا العدد، فهل نعد الأصول مع الفروع؟ أو الأصول فقط؟ أو الفروع فقط؟.
كذلك فإن الفرق ليس لظهورها زمن محدد، أي لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد لنهاية تفرق أمته. وعلى هذا فإن الصواب أن يقال: إن الحديث فيه إخبار عن افتراق أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون تحديدهم بزمن بعينه، بحيث لا يصدق إلا على أهله فقط، وإنما أخبر عن افتراق أمته، وأمته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة...إذاَ فلا نحددها بزمن.
وينبغي أيضاً أن نعد الفرق في أي عصر ظهرت فيه، بغض النظر عن وصولها إلى العدد المذكور في الحديث أو عدم وصولها، فلا بد أن يوجد هذا العدد على الوجه الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر به، في عصرنا أو في غير عصرنا .
من الفرق الناجية؟
أما من هي الفرق الناجية، فقد اختلف العلماء في المراد بهم على أقوال، هي إجمالاً:
1-قيل: إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام.
2- وقيل: هم العلماء المجتهدون الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة)) ، أي لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة، وخصهم شيخ الإسلام بعلماء الحديث والسنة.
3- إنهم خصوص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية: ((ما أنا عليه اليوم وأصحابي)).
4- إنهم جماعة غير معروف عددهم ولا تحديد بلدانهم، أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بإخبار الله له أنهم على الحق حتى يأتي أمر الله. ولعل هذا هو الراجح من تلك الأقوال ونحن نطمع إن شاء الله أن نكون منهم مادمنا على التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى منهج سلفنا الكرام.
5-- وفيه قول خامس، أن الجماعة هم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير .
معنى قوله صلى لله عليه وسلم: ((كلها في النار إلا واحدة))
وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلها في النار)) فقد ذكر الشاطبي ما حاصله:
1-- أن هذه الفرق لا بد أن ينفذ فيها الوعيد لا محالة.
2- أنهم مثل أهل الكبائر تحت المشيئة.
3- أن الأولى عدم التعرض لتعيين الفرق غير الناجية بالحكم عليها بالنار، لأن النبي عليه السلام نبه عليها تنبيهاً إجمالياً لا تفصيلياً إلا القليل منهم كالخوارج .
والذي يظهر لي أن الفرق تختلف في بعدها أو قربها من الحق، فبعضها يصح أن يطلق على أصحابها أنهم أهل بدعة أو معصية وحكمهم حكم أصحاب الكبائر، وبعضها لا يصح وصف أصحابها إلا بالكفر لخروجهم عن الإسلام مثل فرق الباطنية والسبئية والميمونية من الخوارج..إلخ، ويكون حكمهم حكم الكفار الخارجين عن الملة، ولو تظاهروا بالإسلام.