إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) .
أما بعد : فيقول الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً))، ويقول ربنا جل جلاله: ((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله وغفر له : أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم، وحفظ فروجهم، وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها، ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)) ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر، جعل الأمر بغضه مقدَّماً على حفظ الفرج، فإن كل الحوادث مبدؤها من النظر، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، تكون نظرة ثم خطرة ثم خطوة ثم خطيئة" انتهى كلامه رحمه الله .
معاشر المؤمنين : لقد حذر نبينا صلى الله عليه وسلم من إطلاق البصر، والنظر إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، وبيَّن صلوات الله وسلامه عليه أن المخالفة في هذا أهلكت من قبلنا من الأمم، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" ويقول صلوات الله وسلامه عليه وهو الناصح لأمته: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
إن الناظر في حياة الناس اليوم أو في حياة بعضهم، يرى تساهلاً عظيماً مخيفاً، إطلاق للبصر، وافتتان بالنساء، وبذل للمال في سبيل ذلك، عن طريق شراء آلات استقبال القنوات الفضائية وغيرها، ومنه تتبع الأسواق بحثاً عن الفتنة، ومنه بذل المال للسفر إلى الخارج، لأن من فتن بالنساء وأطلق بصره فيما حرم عليه يصير عبدا لهذه اللذة، يسافر من أجلها، ويخسر ماله وعرضه في سبيلها، فتراه الليل والنهار قد أطلق بصره، وأسرته تلك الصور، حتى وهو في عبادته، لا تغيب عنه تلك الصور، ((بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم : لقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بآداب ووصايا، فمن أخذ بها اهتدى وسلم من عاقبة النظر المحرم.
فمنها : الحث على الزواج لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" خرجاه في الصحيحين.
ومنها : صرف البصر عن المحارم، لما روى الإمام مسلم في صحيحه، من حديث جرير بن عمرو البجلي رضي الله عنه أنه قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري".
ومنها : الإنكار على من خالف أمره صلى الله عليه وسلم، وقصة النبي عليه الصلاة والسلام مع الفضل بن عباس لما نظر إلى امرأة فحول النبي صلى الله عليه وسلم وجهه إلى الشق الآخر لئلا ينظر إليها، هذه القصة تدل على الإنكار على من نظر إلى ما حرم الله تبارك وتعالى.
ومنها : نهي المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب، لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وافتتانهم، وكذلك إذا خرجت إلى غير المسجد من باب أولى لا تتطيب.
ومنها : نهي المرأة أن تنعت امرأة أخرى لزوجها، حتى كأنه ينظر إليها، لئلا يقع في قلبه شيء من الميل إلى تلك المرأة .
ومنها : النهي عن الجلوس في الطرقات، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والجلوس في الطرقات، إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: غض البصر وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" خرجاه في الصحيحين.
ومن ذلك : قبول الموعظة الحسنة، وللسلف في هذا كلام حسن نافع :
- روي أن عيسى عليه السلام قال: "النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئة".
- قال ذو النون : "اللحظات تورث الحسرات، أولها أسف، وآخرها تلف، فمن طاوع طرفه، تابع حتفه".
- قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى قول الله تبارك وتعالى: ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ)): "هو الرجل ينظر إلى المرأة الحسناء تمر به، أو يدخل بيتا هي فيه، فإذا فطن له غض بصره، وقد علم الله أنه يود لو اطلع على فرجها ولو قدر عليها لزنى بها".
- قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "حفظ البصر أشد من حفظ اللسان".
- قال أنس رضي الله عنه: "إذا مرت بك امرأة فغمض عينيك حتى تجاوزك".
- قال وكيع رحمه الله: "خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا".
- قال بعض السلف: "النظر سهم سم إلى القلب".
- وقال آخر: "من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته".
- قال شجاع بن شاه رحمه الله: "من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات وطلب أكل الحلال لم تخطأ له فراسته".
- قيل للإمام أحمد بن حنبل: رجل تاب وقال: لو ضرب ظهري بالسياط ما دخلت في معصية الله، إلا أنه لا يدع النظر؟ فقال الإمام أحمد رحمه الله: "أي توبة هذه، قال جرير: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة؟ فقال: اصرف بصرك".
- واستمع إلى ابن الجوزي الواعظ الناصح وهو يقول: "فتفهم يا أخي ما أوصيك به، إنما بصرك نعمة من الله عليك، فلا تعصه بنعمه، وعامله بغضه عن الحرام تربح، واحذر أن تكون العقوبة سلب تلك النعمة".
- قال موسى الحجاوي: "فضول النظر أصل البلاء، لأنه رسول الفرج، أعني الآفة العظمى والبلية الكبرى، والزنا إنما يكون سببه في الغالب النظر، فإنه يدعو إلى الاستحسان، ووقوع صورة المنظور إليه في القلب".
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: إن لغض البصر فوائد عظيمة وعوائد جليلة :
فمن ذلك : تخليص القلب من الحسرة، فإن من أطلق نظره، دامت حسرته، لأنه ينظر إلى ما لا سبيل إليه، ولا صبر له عنه، وذلك غاية الألم.
ومنها : أن غض البصر يورث القلب نورا وإشراقا، يظهر في العين والوجه والجوارح، كما أن إطلاق البصر فيما حرم الله، يورث ظلمة وكآبة.
ومنها : أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، ومن أرسل بصره في المحارم، تكدر عليه قلبه وأظلم، وانسد عليه باب العلم وأحجم.
ومنها : أن غض البصر يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، وفي أثر: "الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله"، ولذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله تبارك وتعالى لمؤثر هواه على رضى مولاه. قال الحسن البصري: "إن ذل المعصية في قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
ومنها : أن غض البصر يورث القلب سرورا وفرحة أعظم من الالتذاذ بالنظر، وذلك لقهره عدوه، وقمع شهوته، وانتصاره على نفسه الأمارة بالسوء، فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله تبارك وتعالى أعاضه الله مسرة ولذة أكمل منها، كما قال بعضهم: "والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب".
ومنها : أن غض البصر يسد عليه بابا من أبواب جهنم، فإن العين تزني وزناها النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.
ومنها : أن غض البصر يخلِّص القلب من سكرة الشهوة، ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر مؤدٍّ للغفلة عن الله والدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق، قال بعضهم: "كنت مع أستاذي بدرت مني نظرة محرمة فقال: يا بني، لتجدن غِبَّها ولو بعد حين، قال: فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي ذلك الغب، فنمت ليلة وأنا متفكر فيه فأصبحت وقد نسيت القرآن كله والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
معاشر المؤمنين : يقول ربنا تبارك وتعالى: ((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)).
إن لإطلاق البصر آثاراً عظيمة، وعواقب وخيمة : فمن ذلك ما أورده الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه قال: "ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين للهجرة، وفيها توفي عبدة بن عبدالرحيم قـبَّحه الله تبارك وتعالى، ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من الذين يجاهدون كثيرا في بلاد العدو فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصرون لبلدة من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة في ذلك الحصن فهويها فراسلها ما السبيل إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليَّ، فأجابها إلى ذلك قبحه الله تبارك وتعالى، فما راعى المسلمين إلا وهو عندها، واغتم المسلمون بسبب ذلك غما شديدا وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن فقالوا: يا ابن عبدالرحيم ما فعلت قراءتك للقرآن وما فعل علمك وما فعل صيامك وصلاتك؟ فقال: اعلموا أني نسيت القرآن كله إلا قوله: ((رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ".
فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) . ، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، ، ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) ، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين